سورة النبأ - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النبأ)


        


{لِّنُخْرِجَ بِهِ} بذلك الماءِ {حَبّاً} يقتاتُ كالحنطةِ والشعيرِ ونحوهِما {وَنَبَاتاً} يعتلفُ كالتبنِ والحشيشِ، وتقديمُ الحبِّ مع تأخرهِ عن النباتِ في الإخراجِ لأصالتِه وشرفِه لأنَّ غالبَهُ غذاءُ الإنسانِ {وجنات} الجنَّةُ في الأصلِ هي المرةُ من مصدرِ جنَّه إذا سترَهُ تطلقُ على النخلِ والشجرِ المتكاثفِ المُظللِ بالتفافِ أغصانِه، قالَ زُهيرٌ بنُ أبي سُلْمَى:
كأنَّ عيني في غَربي مقتلة *** منَ النَّواضحِ تَسقِي جنَّةً سُحُقاً
وعَلَى الأرضِ ذاتِ الشجرِ، قال الفَرَّاءُ الجنةُ ما فيهِ النخيلُ والفردوسُ ما فيه الكَرْمُ والأولُ هو المرادُ. وقولُه تعالَى: {أَلْفَافاً} أي ملتفةً تداخلَ بعضُها في بعضٍ، قالُوا لا واحدَ له كالأوزاعِ والأخيافِ، وقيلَ: الواحدُ لِفٌّ كَكِنَ وأكنانٍ أو لفيفٌ كشريفٍ وأشرافٍ، وقيلَ: هو جمعُ لف جمع لفَّاءَ، كخضر وخضراءَ وقيلَ: جمعُ ملتفةٍ بحذفِ الزوائدِ. واعلم أنَّ فيما ذكر من أنَّ أفعالَه عزَّ وجلَّ دلالةٌ على صحة البعثِ وحقِّيتِه من وجوه ثلاثةٍ: الأولُ: باعتبار قدرتِه تعالَى فإنَّ مَن قدرَ على إنشاءِ هذهِ الأفعالِ البديعةِ من غيرِ مثالٍ يحتذيهِ ولا قانونٍ ينتحيهِ كانَ على الإعادةِ أقدرَ وأقوى، الثَّانِي: باعتبار علمِه وحكمتِه فإنَّ من أبدعَ هذه المصنوعاتِ على نمطِ رائع مستتبعٍ لغاياتِ جليلةٍ ومنافعَ جميلةٍ عائدةً إلى الخلق يستحيلُ أنْ يفنيَها بالكلية ولا يجعلَ لها عاقبةً باقيةً، والثالثُ: باعتبار نفسِ الفعلِ فإنَّ اليقظةَ بعد النومِ أنموذجٍ للبعث بعد الموتِ يشاهدونَها كلَّ يومٍ وكَذا إخراجُ الحبِّ والنباتِ من الأرض الميتةِ بعاينونَه كلَّ حينٍ كأنَّه قيلَ: ألم نفعلْ هذهِ الأفعالَ الآفاقيةَ والأنفسيةَ الدالةَ بفنون الدلالاتِ على حقية البعثِ الموجبةِ للإيمان به فما لكُم تخوضونَ فيه إنكاراً وتتساءلونَ عنه استهزاءً. وقولُه تعالَى: {إِنَّ يَوْمَ الفصل كَانَ ميقاتا} شروعٌ في بيان سرِّ تأخيرِ ما يتساءلونَ عنه ويستعجلونَ به قائلينَ متَى هذا الوعدُ إنْ كنتُم صادقينَ ونوعُ تفصيلٍ لكيفيةِ وقوعِه وما سيلقونَهُ عند ذلكَ من فنونِ العذابِ حسبما جَرى به الوعيدُ إجمالاً، أي إنَّ يومَ فصلِ الله عزَّ وجلَّ بينَ الخلائقِ كان في علمِه وتقديرِه ميقاتاً وميعاداً لبعثِ الأولينَ والآخرينَ وما يترتبُ عليهِ من الجزاءِ ثواباً وعقاباً لا يكادُ يتخطاهُ بالتقدمِ والتأخرِ وقيل: حداً توقتُ به الدُّنيا وتنتهي عندَهُ أو حداً للخلائقِ ينتهونَ إليهِ ولا ريبَ في أنَّهما بمعزلٍ من التقريب الذي أشيرَ إليه على أنَّ الدنيا تنتهي عند النفخةِ الأُولى.


وقوله تعالى: {يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصور} أي نفخةً ثانيةً بدلٌ من يومِ الفصلِ أو عطفُ بيانٍ له مقيدٍ لزيادةِ تفخيمِه وتهويلِه ولا ضيرَ في تأخرِ الفصلِ عن النفخِ فإنَّه زمانٌ ممتدٌّ يقعُ في مبدئه النفخةُ وفي بقيته الفصلُ ومباديه وآثارُه، والصُّور هُو القرنُ الذي ينفخُ فيه إسرافيلُ عليه السَّلامُ. عن أبي هريرةَ رضيَ الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: «لمَّا فرغَ الله تعالى من خلقِ السمواتِ والأرضِ خلقَ الصُّور فأعطاهُ إسرافيلَ فهُو واضعُه على فيهِ شاخصٌ بصرُه إلى العرشِ متى يُؤمرُ بالنفخِ فيهِ فيؤمرُ بهِ فينفخُ فيه نفخةً لا يبقى عندَها في الحياةِ غيرُ من شاءَ الله. وذلكَ قولُه تعالى: {وَنُفِخَ فِى الصور فَصَعِقَ مَن فِى السموات وَمَن فِى الأرض إِلاَّ مَن شَاء الله} ثم يُؤمرُ بأُخرى فينفُخ نفخةً لا يبقَى معها ميتٌ إلا بُعثَ وقامَ وذلكَ قولِه تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ}». والفاءُ في قولِه تعالى: {فَتَأْتُونَ} فصيحةٌ تفصحُ عن جملة قد حُذفتْ ثقةً بدلالة الحالِ عليَها وإيذاناً بغاية سرعةِ الإتيانِ كمَا في قولِه تعالى: {أَنِ اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق} أي فتبعثونَ من قبورِكم فتأتونَ إلى الموقفِ عقيبَ ذلكَ من غير لبثٍ أصلاً {أَفْوَاجاً} أمماً كلُّ أمةٍ معَ إمامِها كما في قولِه تعالى: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بإمامهم} أو زمراً وجماعاتٍ مختلفةَ الأحوالِ متباينةَ الأوضاعِ حسبَ اختلافِ أعمالِهم وتباينِها. عن معاذٍ رضيَ الله عنِهُ أنَّه سألَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «يا معاذُ سألتَ عن أمرٍ عظيمٍ من الأمورِ» ثم أرسلَ عينيهِ وقالَ: «تحشرُ عشرةُ أصنافٍ من أمَّتي بعضُهم على صورةِ القردةِ وبعضُهم على صورةِ الخنازيرِ وبعضُهم منكسونَ أرجلُهم فوقَ وجوهِهم يُسحبونَ عليها وبعضُهم عميٌ وبعضُهم صمٌّ وبكمٌ وبعضُهم يمضعونَ ألسنتَهُم فهيَ مدلاَّةٌ على صدورِهم يسيلُ القيحُ من أفواههم يتقذرهُم أهلُ الجمعِ وبعضُهم مقطعةٌ أيديهم وأرجلُهم وبعضُهم مصلَّبونَ على جذوعٍ من نارٍ وبعضُهم أشدّ نتناً من الجيف وبعضُهم يلبسونَ جباباً سابغةً من قطرانٍ لازقةً بجلودِهم فأمَّا الذينَ على صورةِ القردةِ فالقتَّاتُ من الناسِ وأمَّا الذينَ على صورة الخنازيره فأهلُ السحتِ وأمَّا المنكسونَ على وجوهِهم فأكلةُ الرِّبا وأما العميُ فالذينَ يجورونَ في الحكمِ وأمَّا الصمُّ والبكمُ فالمعجبونَ بأعمالِهم وأمَّا الذينَ يمضغُون ألسنتَهُم فالعلماءُ الذينَ خالفتْ أقوالُهم أعمالَهم وأما الذينَ قُطعتْ أيديهم وأرجلُهم فهم الذين يؤذونَ جيرانَهم وأما المصلبونَ على جذوعٍ من نارٍ فالسعاةُ بالناسِ إلى السلطانِ وأمَّا الذينَ هم أشدُّ نتناً من الجيفِ فالذينَ يتبعون الشهواتِ واللذاتِ ومنعُوا حقَّ الله تعالى في أموالِهم وأما الذينَ يلبسونَ الجبابَ فأهلُ الكبرِ والفخرِ والخُيلاَءِ». {وَفُتِحَتِ السماء} عطفٌ على ينفخُ، وصيغةُ الماضِي للدلالةِ على التحققِ. وقرئ: {فُتِّحتْ} بالتشديدِ وهو الأنسبُ بقولِه تعالى: {فَكَانَتْ أبوابا} أي كثُرتْ أبوابُها المفتحةُ لنزولِ الملائِكةِ نزولاً غيرَ مُعتادٍ حتى صارتْ كأنَّها ليستْ إلاَّ أبواباً مفتحةً كقولِه تعالى: {وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً} كأنَّ كلها عيونٌ متفجرةٌ وهو المرادُ بقولِه تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السماء بالغمام} وهو الغمامُ والذي ذُكرَ في قولِه تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله} أي أمرُه وبأسُه في ظلٍ من الغمامِ والملائكةِ وقيلَ: الأبوابُ الطرقُ والمسالكُ أي تكشطُ فينفتحُ مكانُها وتصيرُ طرقاً لا يسدُّها شيءٌ.


{وَسُيّرَتِ الجبال} أي في الجوِّ على هيئاتِها بعد قلعِها من مقارِّها كما يعربُ عنه قولُه تعالى: {وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب} أي تراها رأيَ العينِ ساكنةً في أماكِنها والحالُ أنَّها تمرُّ مرَّ السحابِ الذي يسيرُه الرياحُ سيراً حثيثاً وذلكَ أنَّ الأجرامَ العظامَ إذا تحركتْ نحواً من الأنحاءِ لا تكادُ يتبينُ حركتُها وإنْ كانتْ في غايةِ السرعةِ لا سيمَّا من بعيدٍ وعليهِ قولُ مَنْ قالَ:
بأرعنَ مثلِ الطودِ تحسبُ أنَّهم *** وقوفٌ لحاجٍ والركابُ تهملجُ
وقد أُدمجَ في هذا التشبيهِ تشبيهُ حالِ الجبالِ بحال السحابِ في تخلخل الأجزاءِ وانتفاشِها كما ينطقُ به قولُه تعالى: {وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش} يبدلُ الله تعالى الأرضَ ويغيرُ هيأتَها ويسيرُ الجبالُ على تلكَ الهيئةِ الهائلةِ عند حشرِ الخلائقِ بعد النفخةِ الثانيةِ ليشاهدُوها ثم يفرقها في الهواء وذلك قولُه تعالى {فَكَانَتْ سَرَاباً} أي فصارتْ بعدَ تسييرِها مثلَ السرابِ كقولِه تعالى: {وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً * فَكَانَتْ هَبَاء} أي غُباراً مُنتشراً وهيَ وإنْ اندكتْ وانصدعتْ عند النفخةِ الأُولى لكن تسييرُها وتسويةُ الأرضِ إنما يكونانِ بعد النفخةِ الثانيةِ كما نطقَ به قولُه تعالَى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعى} وقولُه تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ} فإنَّ ابتاعَ الدَّاعِي الذي هو إسرافيلُ عليه السَّلامُ وبرزُوا لخلق الله تعالى لا يكونُ إلا بعد النفخةِ الثانيةِ.
{إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً} شروعٌ في تفصيل أحكامِ الفصلِ الذي أضيفَ إليه اليومُ إثرَ بيانِ هولِه، ووجهُ تقديمِ بيانِ حالِ الكفارِ غنيٌّ عن البيان. والمرصادُ اسمٌ للمكان الذي يُرصد فيه كالمضمارِ الذي هُو اسمٌ للمكان الذي يُضمَّر فيه الخيلُ والمنهاجُ اسمٌ للمكانِ الذي ينهجُ فيهِ أيْ أنَّها كانتْ في حكمِ الله تعالى وقضائِه موضعَ رصدٍ يرصدُ فيه خزنة النار الكفار ليعذبوهم فيها. {للطاغين} متعلق بمضمر هو إمَّا نعتٌ لمرصاداً أي كائناً للطاغينَ وقولُه تعالَى: {مَئَاباً} بدلٌ منه أيْ مرجعاً يرجعونَ إليهِ لا محالةَ وإمَّا حالٌ مِنْ مآبا قُدمتْ عليهِ لكونِه نكرةٌ ولو تأخرتْ لكانتْ صفةً له وقد جُوِّزَ أنْ يتعلقَ بنفسِ مآبا على أنَّها مرصادٌ للفريقينِ مآبٌ للكافرينِ خاصَّة ولا يَخفى بُعدُه فإنَّ المتبادرَ من كونِها مرصاداً لطائفةٍ كونُهم معذبينَ بَها وقد قيلَ: إنَّها مرصادٌ لأهل الجنةِ يرصدُهم الملائكةُ الذين يستقبلونَهم عندَها لأنَّ مجازَهم عليها وهي مآبٌ للطاغين وقيل المرصاد صيغة مبالغة من الرصد، والمعنى أنها مجدة في ترصد الكفار لئلاَّ يشذَّ منُهم أحدٌ. وقرئ: {أنَّ} بالفتحِ على تعليلِ قيامِ الساعةِ بأنَّها مرصادٌ للطاغينَ.

1 | 2 | 3 | 4